تتحقق مصالح الناس في هذه الحياة بجلب النفع لهم ودرء الضرر عنهم، وقد دل الحس والمشاهدة أن هذه المصالح تتكون من أمور ضرورية لهم، وأمور حاجية وأمور تحسينية، وبتوفرها تتحقق مصالحهم، وبفقدها يختل نظام حياتهم وتعم فيهم الفوضى والمفاسد، وينالهم الحرج والضيق، وتكون حياتهم مستنكرة في تقدير الشرع والفطر السليمة والعقول الراجحة.
المقاصد: لغة مكان للقصد وغاية القصد، واصطلاحا: الغايات والحكم التي وضعها الشارع عند كل حكم تحقيقا لمصالح العباد عن طريق جلب المنافع لهم، ودرء المفاسد عنهم دنيا وآخرة.
المقصد العام للشارع من تشريعه الأحكام تكليفية كانت أو وضعية هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم، وتوفير حاجياتهم وتحسينياتهم، وذلك بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم، والشارع الإسلامي شرع أحكاماً في مختلف أبواب أعمال الإنسان قصد منها حفظ واحدة من هذه الثلاث لتحقيق أمهات الضروريات والحاجيات والتحسينات للأفراد والجماعات، وما أهمل ضروريا ولا حاجيا ولا تحسينيا من غير أن يشرع حكماً لتحقيقه وحفظه، وما شرع حكماً إلا لإيجاد وحفظ واحدة من هذه الثلاثة، ويجب مراعاة مراتب الأحكام باعتبار مقاصدها على النحو الذي ذكر: فلا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي، ولا يراعى حاجي ولا تحسيني إذا كان في مراعاة أحدهما إخلال بضروري، ومعرف المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام ومراتب المصالح المحققة لهذا المقصد من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها وتطبيقها على الوقائع، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه.
دل استقراء الأحكام الشرعية الكلية والجزئية في مختلف الوقائع والأبواب، وكذا استقراء العلل والحكم التشريعية التي قرنها الشارع بكثير من الأحكام، لأن كل حكم في الإسلام إنما شرع لإيجاد وحفظ وحماية أمر من أمور الناس الضرورية أو الحاجية أو التحسينية، والتي بواسطتها تتحقق مصالحهم في مختلف مجالات حياتهم من عبادات ومعاملات وعادات وعقوبات، دل الشرع لحفظ الضروري بقوله تعالى في سورة البقرة في تعليل إيجاب الجهاد: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾، وقوله تعالى في سورة البقرة في إيجاب القصاص: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، وقول الرسول ﷺ في تعليل النهي عن بيع التمر قبل أن يبدو صلاحه: »أرأيت إذا منع الله الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه»، إلى غير ذلك من العلل التي تدل على قصد الشارع حماية الدين والأنفس والأموال وكل ما هو ضروري للناس، ودل على توفير الأمر الحاجي بما قرنه من العلل والحكم التشريعية، كقوله تعالى في سورة المائدة: ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾، وقوله سبحانه في سورة الحج: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، وقوله تعالى في سورة النساء: ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾، وقول الرسول ﷺ: «بعثت بالحنيفة السمحة»، ودل الشرع على توفير الأمر التحسيني بالعلل والحكم التي قرنها ببعض أحكامه، كقوله تعالىل في سورة المائدة: ﴿ َلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾، وقول الرسول ﷺ: «وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وقوله ﷺ: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا».
فاستقراء الأحكام الشرعية والعلل والحكم الشرعية في مختلف الأبواب والوقائع ينتج أن الشارع الإسلامي ما قصد من تشريعه الأحكام إلا حفظ ضروريات الناس وحاجيتهم وتحسينياتهم، وهذه هي مصالحهم.
عرض التعليقات
جزاكم الله خيرا